مجهولو النسب يصرخون "لا تحاسبونا بغلطة آبائنا بل حاسبونا بأفعالنا"..

وهيبة تامر.. جزائرية تعكس حالة الآلاف من الأبناء مجهولي النسب الذين كبّدهم الطيش آلاما وأهوالا كسرت خواطرهم في مجتمع لا يرحم يعتبرهم قنابل موقوتة وأبناء حرام ولقطاء، لكنها على عكس كثير من هؤلاء المستسلمين لحالهم مثال ناجح امتلكت القدرة والجرأة على مواجهة جلاديها الذين أخطئوا الهدف وحمّلوها وزرا هي بريئة منه براءة الذئب من دم يوسف.. رفعت صوتها وأسمعت من بهم صمم وقالت "عشت كل حياتي بغلطة والدي، لذا لا تحاسبونا بغلطة آبائنا بل حاسبونا بأفعالنا.."
حرمتها الظروف أمّا بيولوجية، فعوضها الله أمهات كثيرات، أحبهن على قلبها الأمهات المجاهدات اللواتي بتن صديقات لجمعيتها "الطفل البريء" التي أسستها بعد ولادتها الجديدة وتصالحها مع نفسها، لتشق طريقها نحو خدمة أبناء الجزائر مجهولي النسب.
"جواهر الشروق" زارها في بيتها وكان له معها هذا الحوار الذي أثبتت فيه فعلا أنها خير خلف لأسوء سلف..
 تُقدَّمين دائما على أنك رئيسة جمعية الطفل البريء، فمن هي وهيبة تامر؟
وهيبة تامر.. سيّدة "غير متزوجة" في الـ 48 من العمر من مواليد 10 جويلية 1967.. ابنة مجهولة النسب تكفلت بتربيتها عائلة من العاصمة، أنهت دراستها في العام 1983 في المستوى الرابع متوسط.. هذه هي ببساطة وهيبة تامر التي تفتخر وتعشق اسم مناضلة عوض رئيسة جمعية الطفل البريء.
عشت طفولتك وشبابك وسط عائلتك التي تكفلت بك فكيف تصفين هذه المرحلة؟
تكفّلت بي عائلة "زوج عاقر" الأم كانت تعمل مربية في بيتها لدى مديرية التضامن الاجتماعي وكانت من أوائل المربيات في جيل الاستقلال..
أنا وطفلين آخرين كانت تقول لنا أمنا "ماما فتيحة" دوما إننا أبناءها فعلا ولم تخبرنا يوما أننا أبناؤها بالتبني.. "جلبتنا وفي عمرنا 3 أشهر" حسب ما قيل لي طبعا.
ترعرعنا في بيت كله حب وإخاء، كنا 6 أبناء يعيشون معا، 3 منهم كانوا يعرفون أنهم ليسوا أبناء حقيقيين لهذه الأسرة، أمّا الثلاثة المتبقون فكانوا يجهلون الأمر تماما، من بينهم أنا وولدين آخرين.. لم تشعرنا يوما أنها ليست أمنا الحقيقية.
عن نفسي أشهد أمام الله أنها دللتني كثيرا ولم تحرمني أي شيء.. كانت حنونة عطوفة إلى أبعد الحدود تسهر على راحتنا ونظافتنا.. على طعامنا ولبسنا.. كانت أمّا بكل ما تحمله الكلمة.. أترحم عليها دوما وأدعوا لها في كل حين.
متى اكتشفت الحقيقة وأنك ابنة مجهولة النسب؟
عندما كبرت كنت دوما أسأل ماما لماذا لا أشبهك؟ فكانت تجيب أنني أشبه أبي" تقصد زوجها"
كنت أسألها أيضا لماذا أنا ولدت بالبليدة ونحن الآن نعيش في القبة بالعاصمة، فكانت دائما تجد أجوبة تتهرب بها من قول الحقيقة.
حينها كنت صغيرة السن ولم أعر تلك الإجابات أهمية كبيرة لكن نقطة التحول في حياتي كانت ليلة اجتيازي اختبار شهادة المتوسط حينها تحطم مستقبلي وتحطمت معه حياتي.. حيث لم أتمكن من اجتياز الامتحان لأنه لم يكن لدي شهادة ميلاد في ذلك الوقت ووالدتي رحمها الله لم تكن ترد إخباري أنني لست ابنتها فينكشف أمرها، حيث أنها في المراحل الدراسية السابقة كانت تتدبر حالها في الحصول على شهادات ميلاد بمساعدة أشخاص تعرفهم، لكن جد في الوضع أمور حالت دون تمكنها هذه المرة من الحصول على شهادة ميلاد أصلية وإدارة المدرسة أصرت على ذلك.. وقالت لي إنني إن لم أحضرها عشية الامتحان فلا داعي لحضوري يوم غد لأنني ببساطة سأكون ممنوعة من اجتياز الامتحان.
فاجأتني إحدى المؤطرات بالمدرسة أنني لست ابنة السيدة فتيحة وأنها تكفلت بي وربتني لأنني ابنة مجهولة النسب.. ساعتها لم أتمالك نفسي وعدت إلى البيت وأنا أبكي طوال الطريق وفي حالة سيئة للغاية، غير أن والدتي هدّأتني وأكدت لي أن كل ما قالته المؤطرة كذب ولا أساس له من الصحة وأنني ابنتها ابنة بطنها..
 كنت متفوقة دوما في دراستي وأحصل على درجة التهنئة.. غير أنهم حطموا حياتي حين عدت إلى البيت مزقت كل أوراقي وكراريسي وأدواتي ومنذ ذلك الوقت دخلت في عزلة وأصبت بانهيار عصبي..
بقيت على ذلك الحال حوالي أربع سنوات كاملة عزلت خلالها نفسي عن الناس وقلّت فيها محبتي لأمي، حيث بقيت متذبذبة بين إحساس بتصديقها وإحساس آخر بتصديق المدرسة..
استمر الوضع مدة طويلة إلى أن مرضت أمي وتوفيت بعد ذلك رحمها الله.. ويوم وفاتها اكتشفت الحقيقة عندما كانت
خالتي التي هي أختها تبكي وتقول "ياختي ماجبتيش اللي تبكي عليك" تفاجأت وقلت في نفسي إذن أنا وإخوتي لسنا أبناءها فعلا وهو ما دفعني إلى فتح الدفتر العائلي بعد عودة والدتي من الجنازة والتأكد من الأمر.
وهنا كانت صدمتي القاتلة، حيث وجدت خانة الأطفال فارغة ولم يكن في الدفتر غير إسم الزوجين فقط دون أولاد.. بعد أيام سألت والدي "هل فعلا أنا ابنتك أم لا؟ فأجابني نعم أنت ابنتنا..
لكنني صارحته بأنني اطلعت على الدفتر وهنا انتفض والدي لأنني مارست حسبه تجاوزا لا يغتفر وخاصمني مدة طويلة..
هل تسامحين اليوم والدتك لأنها أخفت عنك الحقيقة؟
أجل أجل.. أسامحها وأحترمها وأفتخر بها.. هي ربتنا كأسرة واحدة إخوة فيما بيننا، وأتفهّم جيدا موقفها ورغبتها في أن تكون أمّا حقيقية.. عشت حياتي كلّها بالكذب حياتي كانت كذبة كبيرة دفعت ثمنها غاليا جدا لذا فأنا لا أستطيع الكذب ولا أتحمله أبدا.. الكذب ضيّع لي حياتي مستعدة لقول الحقيقة حتى وإن كلّفني الأمر السجن أو غيره.
كيف عشت حياتك بعد وفاة والدتك؟
في البداية كانت الحياة عادية.. رغم أن والدنا بالتبني كان جافا في التعامل معنا وهو ليس أمرا جديدا عليه فهكذا عهدناه دوما، غير أن عطف والدتنا كان ينسينا قسوته.. كنت أحس أنه "هتلر" حتى نحن لم يكن لنا حنان أو عاطفة تجاهه.
حاولت أن ألطف الجو بعد وفاة والدتي ولعبت دور الأم في تحمل مسؤولياتها في البيت وبعد 5 سنوات من وفاتها أراد أخي الزواج فقمنا بكل التحضيرات، لكن مشاكلا كبيرة اندلعت بعد مجيء زوجة أخي كلفتني الطرد منه ووجدت نفسي في العراء، لكنني والحمد لله لم أنحرف ولم أسلك طريقا غير قويم وفضلت العيش بكرامتي وشرفي وعدم الارتماء في أحضان الرذيلة..
تشتت أسرتنا كاملة فإحدى أخواتي تم إعادتها إلى مديرية النشاط الاجتماعي وأختي الأخرى تزوجت والبقية ذهبوا كل واحد في اتجاه.
مالذي حدث فيما بعد؟
كان عمري حينها 27 عاما وتخيلي في هذا السن ما يمكن أن تؤول إليه أي فتاة، غير أنني تشبثت بتربيتي الصحيحة وكنت أنام عند الجيران كل مرة عند واحد وكان هؤلاء يتوسطون لأبي بالتبني كي يعيدني إلى البيت وإخوتي، لكنه تنكّر لنا وقال بالعبارة "لست أنا من أحضرهم.. التي أحضرتهم ماتت".
بعدها قررت إحدى العائلات أن تأويني في بيتها القريب من بيتنا الأصلي، لكنها اشترطت أمرا واحدا وهو إثبات هويتي وهو حقها الذي لم أعارضه، لأننا كنا نعيش في العشرية الحمراء وهو ضمان لها وتأمين لي، بعدها قصدت مديرية النشاط الاجتماعي وطالبت بالاطلاع على ملفي الشخصي الذي يحق لي حسب القانون بعد بلوغ سن 18 عاما وتحصلت على أول شهادة ميلاد لي بعد عام كامل من الذهاب والإياب بين الإدرارات ولا زلت احتفظ بها إلى الآن وكانت بتاريخ 13 نوفمبر 1996 أحسست خلالها أنني إنسانة أولد من جديد بعد أن أصبح بإمكاني إثبات هويتي والحصول على وثائقي مثل سائر الجزائريين تحصلت بعدها على أول بطاقة تعريف وطنية وبعدها على جواز سفري.
ألم تحاولي استئناف دراستك بعدها بالمراسلة؟
لا لم أفكر في الأمر حينها لكنني انطلقت بعدها بتشجيع من العائلة التي آوتني وكفلتني في مجال التكوين وتحصلت على دبلوم في الخياطة من 1997 إلى غاية 1999 وكذا دبلوم في الإعلام الآلي عام 2001 وطورته فيما بعد وتحصلت أيضا على دبلوم في الحلويات والمرطبات.
ما الذي تغيّر فيك بعد هذه التجربة الأليمة؟
المحن كونت شخصيتي.. في السابق كنت أبكي كثيرا على أبسط ملاحظة أو نقد عنيف قد يوجه لي.. كنت أبكي كثيرا وأخجل عندما أقدم نفسي على أنني ابنة مجهولة النسب، لكن الآن استطعت تغيير نفسي والفضل يعود إلى الأطباء الأخصائيين في علم النفس الذين تواصلت معهم من أجل التغلب على محنتي.. اتصلت بهم وتابعت معهم حالتي إلى أن أصبح بإمكاني مواجهة العالم كلّه اليوم دون أن ابكي أو أخجل.
كيف كانت بدايتك مع العلاج النفسي؟
توجهت في مارس 2010 لحضور حفلة أقيمت ببلدية القبة بمناسبة 8 مارس بعد انغلاق على نفسي وعزلة كبيرة أثرت على نفسيتي ووجدت آنذاك رئيسة البلدية سعيدة بوناب، تقدمت نحوها وقلت لها "من فضلك سيدتي أنا بحاجة إليك ولكن كمختصة نفسية وليس كرئيسة بلدية" فأعطتني رقمها وتواصلنا فيما بعد وتواعدنا والتقينا وشرحت لها حالتي وكانت معينة وداعمة لي كثيرا كانت بالفعل مفتاح سعادتي إلى درجة أننا تقاربنا كثيرا وأصبحنا اليوم أصدقاء..
كيف تبادرت إلى ذهنك فكرة تأسيس الجمعية؟
بعد مدة من استرجاع الثقة في نفسي صارحت سعيدة بوناب برغبتي في إنشاء جمعية لنصرة الأطفال مجهولي النسب والأخذ بيدهم، فشجعتني ورفعت همتي وعزيمتي.
ثم قررت البدء في الإجراءات اللازمة إلى أن أصبح للجمعية اسم وأعضاء واخترت المجاهدات للعمل معهن في هذا السياق وذلك لحبي الشديد لهن ولتاريخ الجزائر المجيد.. لم أطلب يوما أن أرى والدي البيولوجي بقدر ما طلبت أن أرى هؤلاء المجاهدات وأتحدث معهن وحقق الله لي أمنيتي إلى أن أصبحن صديقات الجمعية ويشاركن في نشاطاتها، حتى أصبح يقال لي وهيبة بنت المجاهدات
أول مجاهدة التقيتها هي سعيدة بن سليمان المدعوة "دونة" هي أم متكفلة بجميع الأطفال في القبة آنذاك
أسسنا الجمعية في 8 أوت 2012 بدار الشباب القبة حضر معنا مختصون ومجاهدات في البداية سميناها "أبناء الجزائر" لكن رفضت التسمية وغيرناها إلى جمعية الطفل البريء وهي جمعية محلية لولاية الجزائر تتكون من 23 فردا وأبناء مجهولي النسب  بها أفراد فعالة في المجتمع المدني، محامون ومساعدات اجتماعية وأطباء.
 ألا يزعجك أن يقال عنك ابنة مجهولة النسب؟
في البداية بلى، لكن حقيقة أنا بنت "لاداس" وأفتخر.. لم أنحرف ولم أرتكب خطيئة.. لأننا لم نطلب أن نأتي إلى هذا العالم بهذه الطريقة ولم نطلب العيش بعلامة استفهام.. نحن في الجمعية ندافع عن البراءة ولا ندافع أبدا عن الأمهات المرتكبات لهذا الفعل أتكلم عن الأبناء مجهولي النسب كحالة واحدة منهم عانت وعاشت حياتها كاملة حاملة لهذا اللقب وليس كرئيسة للجمعية.
عشت كل حياتي بغلطة والدي، لذا أقول للمجتمع لا تحاسبونا بغلطة آبائنا بل حاسبونا بأفعالنا..
كيف تقرئين واقع الطفولة مجهولة النسب في بلادنا؟
في العام 1997 كنت أنا الرقم 80 في قائمة الأطفال مجهولي النسب في الجزائر، كنّا حينها عددا ضئيلا لكنه ارتفع اليوم إلى نسب قياسية جدا وصلنا إلى 45 إلف حالة حسب ما تتداوله وسائل الإعلام والجهات الرسمية.. هل يعقل فعلا أن يحدث هذا في مجتمع مسلم.
بالنسبة لي لا يوجد أم عازبة ولكن يوجد أم بيولوجية.. نتحدث دوما عن الأم وعن تسببها في الكارثة ولكن أين هو الأب من كل هذا؟
عار ما يحدث، يجب علينا توعية المجتمع وكلا الجنسين فما لا يرضاه الرجل لأخته يجب أن لا يرضاه على بنات الناس.
زنا المحارم تفشى بشكل فاضح فحتى الأب والجد والخال والعم لم يصبحوا محل ثقة فمن يضمن النتائج واختلاط الأنساب فيما بعد؟ مثلا أنا إذا أردت أن أتزوج من يؤكد لي أنني لم أتزوج أخي أو أحد محارمي؟
مالذي تقترحينه في هذا المجال؟
   يعرف التشريع الجزائري فراغا قانونيا كبيرا، لذا أقترح تكثيف الجهود بما يضمن إنصافا للأطفال مجهولي النسب وضمانا أكبر لحقوقهم. 
من أهم ما يجب أيضا وبصفة استعجالية هو إلزام الأم البيولوجية بأن تترك معلومات وافية كافية في ملف صغيرها الذي تخلت عنه ضمانا لحياة ومستقبل واضح له فيما بعد.. يجب أن تتحمل تبعات ما اقترفت كي ينشأ الطفل معروف الهوية فلا يوجد أبدا معاناة مثل معاناة الطفل لذا يجب على الرجل والمرأة أن يدفعا ثمن غلطتهما أو بالأحرى "جريمتهما".
كلمة أخيرة توجهينها..
العمل الجمعوي مهم جدا ويساعد بشكل كبير في حل العديد من المشاكل الاجتماعية، لكن عدم الاستفادة من مقر يعرقل هذا الهدف النبيل، فجمعيتنا تتخذ من الكشافة الإسلامية مقر إثبات لها لأنها لا تملك مقرا إلى غاية الآن.. نحن لا نطالب بتوفير مقر مستقل لنا لأننا نعلم الأزمة الحاصلة الآن في هذا المجال ولكننا نطالب بتوفير دار للجمعيات كما هو معمول به في بعض المناطق.
أخيرا أشكر كثيرا العائلة المتكفلة بي حاليا، والتني ساعدتنا وتساعدني دوما بتشجيعاتها ودعمها، كما أنصح  كل الأسر والعائلات بإدماج أبنائهم في الكشافة الإسلامية فهي فعلا تضمن المنبت القويم للأبناء..

ليست هناك تعليقات

2015. يتم التشغيل بواسطة Blogger.