قلولي بن ساعد : صدمة الذكرى ..ولاءات جدي ومواويل الطفولة العذبة
لن أنسى أبدا اليوم الذي وطأت فيه
قدماي مدرسة خالدي مخلوف المركزية بقريتي " زنينة" ..لقد ظللت أسبوعا
بأكمله أنتظر بشغف رهيب حلول ذلك اليوم السعيد رفقة جارتنا خديجة التي كانت
تكبرني بأربع سنوات بناءا على وصية والدتي لها قائلة لها " أتهلاي فيه "
بوصفي كنت الإبن المدلل في البيت خاصة وأني جئت إلى الدنيا بعد عدد من
البنات جرت العادة أن مجتمعاتنا الأبوية تهلل كثيرا للبطون التي تتنزل في
فجاجها مواليدا من صنف الذكور وتتطير من حلول الأنثى في مرابعها ..تطلب ذلك
من والدي رحمة الله عليه أن يسافر إلى غارداية ليجلب لي منها بذلة أنيقة
جدا لم يشهد لها مثيل بين نظرائي من شباب قبيلتنا والقبائل المجاورة لنا...
كنت لا أنقطع مطلقا على مداومة الدروس ليس حبا في الدروس لذاتها بل حبا في
زميلتي في القسم " النخلة " أتشوق لرؤيتها صباحا في مدرستي البيضاء
..أتملى في وجهها الناصع البياض وظفيرة شعرها ووميض عينيها السوداوين
..وصدرها الدائري بشكل بديع ... أستمع لصوتها الشجي وهي تغني لي بعض مواويل
الطفولة العذبة ثم تسألني "أمك سدات المنسج " .. ؟ لا درس لي غيرها ..هي
المادة الوحيدة التي كنت أواظب على حفظها والإمتلاء بها لا تصرفني عنها سوى
العطلة المدرسية فأبحث عن صديقي "شارلو"أبذر وقتي معه في الضحك والثرثرة
والتهكم لأنسى قليلا أمرها وأمر العطلة المدرسية الثقيلة علي كليلة شتاء
طويلة التي كنت أشعر نحوها بعاطفة غريبة وقد ذكرت بعضا من هذه الأجواء في
قصتي " أوجاع شائكة" التي أستوحيت بعض عوالمها من أشباح طفولتي القابعة في
درج الذاكرة ...ومن سوء حظي أن في قريتنا مدرسة أخرى هي مدرسة البساتين حسب
التسمية الجديدة التي بناها راؤول بوني وهي مدرسة تقدم دروسا جيدة باللغة
الفرنسية لم أتمكن من التحول لها لأن جدي من أمي الفقيه رفض ذلك رفضا مطلقا
قائلا لي أنها مدرسة النصارى واليهود ومن لف لفهم تقول الرواية الشفوية أن
راؤول بوني جاء مع حملة الجنرال يوسف من الجلفة لزنينة حيث استقبلتهم
العروش بالعصي وليس بالحفاوة كما كانوا يتوقعون سنة 1846 وقد أعجبته
المدينة فقرر العودة إليها بعد أن رحل للجلفة حيث كان مع المعسكر
الفرنسي..كانوا وقتها يريدون بناء كنيسة في زنينة وبدلا من الكنيسة اقترح
عليهم بناء مدرسة ودام بناؤها سنتان من 1945 إلى 1947 بدأ التدريس سنة58
وكانت في المدرسة شقة بها كل المرافق الضرورية وقد أحضروا الطين وشكلوا
تمثالا تحفة منه على شك ناقة حيث يخرج الماء من فمها ثم غادر نحو المنيعة
سنة 1968 وهي المدرسة التي تتلمذ فيها الكثير من أبناء الأسر الإرستقراطية
القادمة من الأغواط والجلفة والمسيلة وأبناء الجالية اليهودية المتواجدة
بمسقط رأسي خلال الفترة الإستعمارية سبب آخر كان يحز في نفسي لأرتاد هذه
المدرسة وهي قربها من حارة الزيقم الحارة التي نشأت فيها حيث المدخل الغربي
منها المؤدي إلى مدرسة راؤول بوني بجانب وكر الدرويشة "سلطانة" التي تنبعث
منها رائحة الجاوي والبخور والعرعارولا زال هذا المانع يشكل لي عقدة كبرى
كلما ذكرته أو أردت الفرارمن صدمة الذكرى لحد التخلص قليلا من سطوة " الولع
بالأصل " بعبير أدموند جابيس
منقول عن صفحة أديبنا القدير قلولي بن ساعد.
منقول عن صفحة أديبنا القدير قلولي بن ساعد.
أترك تعليقًا